الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
فأجابه محمد بن عبد الملك الزيات معتذراً بقوله: [منسرح] على أن في كراهة الدعاء للإخوان بذلك نظراً فسيأتي في الكلام على ترتيب المكاتبات على سبيل الإجمال أن أم حبيبة بنت أبي سفان زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية في حديث طويل يأتي ذكره هناك إن شاء الله تعالى.أما الدعاء بالإمتاع للأتباع، فقد أجازه جماعةٌ من محققي الكتاب، محتجين على ذلك بأنه، صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: كعب بن عبيد الله بقوله «اللهم أمتعنا به». قال ابن عفير: فكان آخر أهل بدرٍ وفاةً، مات سنة خمس وخمسين من الهجرة.النوع الثاني ما يختص بالنساء. فقد ذكر أبو جعفر النحاس أنه لا يقال في مكاتبتهن وأدام كرامتك ولا وأتم نعمته عليك ولكن لديك، ولا فضله عندك ولا وأدام سعادتك. أما منع الدعاء لهن بالكرامة، فلما حكى محمد بن عمر المدائني أن بعض عمال زبيدة كتب إليها كتاباً بسبب ضياع لها فوقعت له على ظهر كتابه: أردت أن تدعو لنا فدعوت علينا، فأصلح خطأك في كتابك وإلا صرفناك عن جميع أعمالك! فأدركه القلق، وجعل يتصفح الكتاب ويعرضه على الكتاب فلا يجد فيه شيئاً، إلى أن عرضه على بعض أهل المعرفة فقال: إنما كرهت دعاءك في صدر كتابك بقولك: وأدام كرامتك، لأن كرامة النساء دفنهن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دفن البنات من المكرمات» فغير ذلك الحرف من كتابه وأعاده إليها فوقعت له على ظهره أحسنت ولا تعد، وأما كراهة وأتم نعمته عليك وإبدال ذلك بلفظ وأتم نعمته لديك، فكأنه لما يلمح فيه من ذكر العلو على النساء. وأما منع وأتم فضله عندك، أو وأتم سعادتك فيحتاج إلى تأمل.الخامس أن يتجنب الخلاف في الدعاء في فصول الكتاب، ولا يوالي بين دعوتين منه متفقتين. فأما الخلاف في الدعاء، فقال أبو جعفر النحاس: هو مثل إن يقول: أطال الله بقاء سيدي بلفظ الغيبة، ثم يقول بعد ذلك: وبلغك أملك بلفظ الخطاب. وأما الموالاة بين دعوتين ولا يأتي بهما متفقتين، فقال في مواد البيان: هو مثل حرس الله الأمير أعزه الله ثم يقول في الفصل الذي بعده: أعزه الله تعالى، وما أشبه ذلك.السادس أن يتجنب وقوع اللبس في الدعاء. فإذا ذكر الرئيس مع عدوه مثلاُ، لم يدع للرئيس حينئذ، فإنه لو ذهب يقول وقد كان من عدو سيدي أبقاه الله كذا، لاحتمل عود الدعاء إلى الرئيس وإلى عدوه فيقع اللبس: أما إذا ذكر الرئيس وحده كما إذا قال: وقد كنت عرفت سيدي أبقاه الله كذا فإنه لا التباس.الأصل السادس أن يعرف ما يناسب المكتوب إليه من الألقاب فيعطيه حقه منها:ويتعلق الغرض من ذلك بثلاثة أمور:أحدها: أن يعرف ما يناسب من الألقاب الأصول المتقدمة الذكر في المقالة الثالثة عند الكلام على الألقاب المصطلح عليها بحسب ذلك الزمان، كالمقام، والمقر، والجناب، والمجلس في زماننا، فيعطي كل أحد من المكتوب إليهم ما يليق به من ذلك، فيجعل المقام لأكابر الملوك، والمقر لمن دونهم من الملوك، وللرتبة العليا من أهل المملكة. والجناب للرتبة الثالثة من الملوك والرتبة الثانية من أهل الدولة. والمجلس للرتبة الرابعة من الملوك والرتبة الثالثة من أهل الدولة. ومجلس الأمير لمن دون ذلك من أهل الدولة على المصطلح المستقر عليه الحال.الثاني أن يعرف ما يناسب كل لقب من الألقاب الأصول من الألقاب والنعوت التابعة لذلك، فيتبع كل واحد من الأصول بما يناسبه من الفروع.الثالث أن يعرف مقدار المكتوب إليه، فيوفيه قسطه من الألقاب في الكثرة والقلة بحسب ما يجري عليه الاصطلاح. فقد ذكر في معالم الكتابة أن السلطان لا يكثر في المكاتبة إليه من نعوته، بل يقتصر على الأشياء التي تكون فيه مثل العالم العادل. أما غير ذلك فيقع باللقبين المشهورين وهما نعته المفرد، ونعته المضاف إلى الدين. وأنه في الكتابة عن السلطان كلما زيد في النعوت كل أمير، لأنها على سبيل التشريف من السلطان، ويجعل المضاف إلى الدين متوسطاً بين الألقاب لا في أولها.الأصل السابع: أن يراعي مقاصد المكاتبات فيأتي لكل مقصد بما يناسبه:ومدار ذلك على أمرين:الأمر الأول أن يأتي مع كل كلمة بما يليق بها، ويتخير لكل لفظة ما يشاكلها. قال ابن عبد ربه: وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل: نسأل الله رفع المحذور، وصرف المكروه، وأشباه ذلك. وفي موضع ذكر المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي موضع ذكر النعمة: الحمد لله خالصاً، والشكر لله واجباً، وما شاكل ذلك. قال في مواد البيان: وإذا ذكر البلوى شفعها بالاستعانة بالله تعالى والرجوع إليه فيها، ورد الأمر إلى حوله وقوته: قال ابن عبد ربك فإن هذه المواضع مما يتعين على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظ فيها، فإن الكاتب إنما يصير كاتباً بأن يضع كل معنًى في موضعه، ويعلق كل لفظ على طبقه في المعنى.ومما يلتحق بذلك أيضاً أنه إذا ذكر الرئيس في أثناء المكاتبة، دعا له، مثل أن يقول عند ذكر السلطان: خلد الله ملكه. وعند ذكر الأمير الكبير: عز نصره، أو: أعز الله تعالى أنصاره. وعند ذكر الحاكم: أيد الله تعالى أحكامه، وما أشبه ذلك مما يجري هذا المجرى.الأمر الثاني أن يتخطى التصريح إلى التلويح والإشارة إذا ألجأته الحال إلى المكاتبة بما لا يجوز كشفه وإظهاره على صراحته، مما في ذكره على نصه هتك ستر، أو في حكايته اطراح مهابة السلطان، وإسماعه ما يلزم منه إخلال الأدب في حقه، كما لو أطلق عدوه لسانه فيه بلفظ قبيح يسوءه سماعه. قال في مواد البيان: فيحتاج المنشيء إلى استعمال التورية في هذه المواضع، والتلطف في العبارة عن هذه المعاني، وإبرازها في صورةٍ تقتضي توفية حق السلطان في التوقير والإجلال والإعظام، والتنزيه عن المخاطبة بما لا يجوز إمراره على سمعه، وإيصال المعنى إليه من غير خيانةٍ في طي ما لا غنًى به عن علمه. قال: وهذا مما لا يستقل به إلا المبرز في الصناعة، المتصرف في تأليف الكلام.الأصل الثامن: أن يعرف مقدار فهم كل طبقة من المخاطبين في المكاتبات من اللسان فيخاطب كل أحد بما يناسبه من اللفظ وما يصل إليه فهمه من الخطاب:قال أبو هلال العسكري في كتابة الصناعتين: أول ما ينبغي أن تستعمل في كتابك مكاتبة كل فريق على مقدار طبقتهم في الكلام وقوتهم في المنطق. قال: والشاهد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى أهل فارس، كتب إليهم بما يمكنهم ترجمته فكتب إليهم: «من محمد رسول الله إلى كسرى أبرويز عظيم فارس، سلامٌ على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة» لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين «فأسلم تسلم، وإن أبيت فإثم المجوس عليك» فسهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الألفاظ غاية التسهيل حتى لا يخفى منها شيءٌ من له أدنى معرفةٍ بالعربية.ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب، فخم اللفظ لما عرف من قوتهم على فهمه، وعادتهم بسماع مثله، فكتب لوائل بن حجر الحضرمي: «من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة من أهل حضرموت بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. على التيعة الشاة، والتيمة لصاحبها، وفي السيوف الخمس، لا خلاط، ولا ورط، ولا شناق، ولا شغار، ومن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام».وقد ذكر العسكري أيضاً في باب الإطناب ما يحسن أن يكون شاهداً لذلك من القرآن الكريم فقال: قد رأينا أن الله تعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي كما في قوله تعالى خطاباً لأهل مكة {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} وقوله: {أو ألقى السمع وهو شهيدٌ} في أشباهٍ كثيرةٍ لذلك. وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعل الكلام مبسوطاً، كما في سورة طة وأشباهها، حتى إنه قلما تجد قصةً لبني إسرائيل في القرآن إلا مطولة مشروحةً ومكررةً في مواضع معادةً، لبعد فهمهم، وتأخر معرفتهم.قال في مواد البيان: فيجب على الكاتب أن يتنقل في استعمال الألفاظ على حسب ما تقتضيه رتب الخطاب والمخاطبين، وتوجبه الأحوال المتغايرة، والأوقات المختلفة، ليكون كلامه مشاكلاً لكل منها، فإن أحكام الكلام تتغير بحكم تغير الأزمنة والأمكنة ومنازل المخاطبين والمكاتبين.قال: ولتحري الصدر الأول من الكتاب إيقاع المناسبة بين كتبهم وبين الأشياء المتقدمة الذكر استعمل كتاب الدولة الأموية من الألفاظ العربية الفحلة، والمتينة الجزلة، ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية، لأن كتاب الدولة الأموية قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتهم، حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها، والأمكنة التي نزلها ملوكهم من بلاد العرب، والرجال الذين كانت الكتب تصدر إليهم، وهم أهل الفصاحة واللسن والخطابة والشعر.أما زمان بني العباس، فإن الهمم تقاصرت عما كانت مقبلة على تطلبه فيما تقدم من العلوم المقدم ذكرها، وشغلت بغيرها من علوم الدين، ونزل ملوكهم ديار العراق وما يجاورها من بلاد فارس، وليس استفاضة لغة العرب فيها كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. ومن المعلوم أن القوم الذين كانوا يكاتبون عنهم لا يجارون تلك الطبقة في الفصاحة والمعرفة بدلالات الكلام، فانتقل كتابها من اللفظ المتين الجزل، إلى اللفظ الرقيق السهل، وكذلك انتقل متأخرو الكتاب عن ألفاظ المتقدمين إلى ما هو أعذب منها وأخف، للمعنى المتقدم ذكره.قال: وحينئذ ينبغي للكاتب أن يراعي هذه الأحوال، ويوقع المشاكلة بين ما يكتبه وبينها، فإذا احتاج إلى إصدار كتاب إلى ناحيةٍ من النواحي، فلينظر في أحوال قاطنيها، فإن كانوا من الأدباء البلغاء العارفين بنظم الكلام وتأليفه، فليودع كتابه الألفاظ الجزلة، التي إذا حليت بها المعاني زادتها فخامة في القلوب، وجلالةً في الصدور، وإن كانوا ممن لا يفرق بين خاص الكلام وعامه، فليضمن كتابه الألفاظ التي يتساوى سامعوها في إدراك معانيها، فإنه متى عدل عن ذلك ضاع كلامه، ولم يصل معنى ما كتب فيه إلى من كاتبه، لأن الكلام البليغ إنما هو موضوعٌ بإزاء أفهام البلغاء والفصحاء، فأما العوام والحشوة، فإنما يصل إلى أفهمامهم الكلام العاطل من حلى النظم، العاري من كسوة التأليف، فيجب على الكاتب أن يستعمل في مخاطبة من هذه صورته أدنى رتب البلاغة وأقربها من أفهام العامة والأمم الأعجمية إذا كتب إليهم.ثم قال: فأما الكتب المعتدة عن السلطان، فإن منها كتب الفتوحات والسلامات ونحوها، وهي محتملةٌ للألفاظ الفصيحة الجزلة، والإطالة القاضية بإشباع المعنى، ووصوله إلى أفهام كافة سامعيه من الخاص والعام، ومنها كتب الخراج وجبايته وأمور المعاملات والحساب، وهي لا تحتمل اللفظ الفصيح، ولا الكلام الوجيز، لأنها مبنية على تمثيل ما يعمل عليه، وإفهام من لا يصل المعنى إلى فهمه إلا بالبيان الشافي في العبارة. ومنها مخاطبته السلطان عن نفسه، فيجب فيها مخاطبته على قدر مكانه من الخدمة من الألفاظ المتوسطة، ولا يجوز أن يستعمل فيها الفصيحة التي لا تحتمل من تابع فيحق متبوع، لما فيه من تعاطي التفاصح على سلطانه، وهو غير جائز في أدب الملوك، وكذلك لا يجوز فيه تعاطي الألفاظ المبتذلة الدائرة بين السوقة، لما في ذلك من الوضع من السلطان بمقابلته إياه بما لا يشبه رتبته.وأما الكتب الإخوانيات النافذة في التهاني والتعازي، فإنها تحتمل الألفاظ الغربية القوية الأخذ بمجامع القلوب، الواقعة أحسن المواقع من النفوس، لأنها مبنية على تحسين اللفظ، وتزيين النظم، وإظهار البلاغة فيها مستحسنٌ واقعٌ موقعه.قلت: والذي تراعى الفصاحة والبلاغة فيه من المكاتبات عن الأبواب السلطانية في زماننا مكاتبات ملوك المغرب كصاحب تونس، وصاحب تلمسان، وصاحب فاس، وصاحب غرناطة من الأندلس، وكذل القانات العظام من ملوك المشرق ومن يجري هذا المجرى، ممن تشتمل بلاده على العلماء بالبلاغة وصناعة الكتابة. ويظهر ذلك بالاستخبار عن بلادهم، وبالاطلاع على كتبهم الصادرة عن ملوكهم إلى الأبواب السلطانية، بخلاف من لا عناية له بذلك كحكام أصاغر البلدان وأصحاب اللغات العجمية من الروم والفرنج والسودان ومن في معناهم، فإنه يجب خطابهم بالألفاظ الواضحة، إلا أن يكو في بعض بلادهم من يتعاطى البلاغة من الكتاب ووردت كتبهم على نهجها فإنه ينبغي مكاتبتهم على سنن البلغاء.الأصل التاسع: أن يراعي رتبة المكتوب عنه والمكتوب إليه في الخطاب فيعبر عن كل واحدٍ منهما في كل مكاتبة بما يليق به ويخاطب المكتوب إليه بما يقتضيه مقامه:فأما المكتوب عنه، فيختلف عنه والمكتوب إليه في الخطاب، فيعبر عن كل واحد منهما في كل مكاتبة بما يليق به، ويخاطب المكتوب إليه بما يقتضيه مقامه فأما المكتوب عنه، فيختلف الحال فيه باختلاف منصبه ورتبته.فأن كان المكتوب عن خليفهً، فقد جرت عادة من الكتاب بالتعبير عنه في الكتب الصادرة عن أبواب الخلافة بأمير المؤمنين، مثل أن يقال: فجرى أمر أمير المؤمنين في كذا على كذا وكذا، وأوعز أمير المؤمنين إلى فلان بكذا، وآقتضى رأي أمير المؤمنين كذا، وخرج أمير المؤمنين بكذا، وتقدم أمير المؤمنين إلى فلان بكذا، وما شاكل ذلك. وربما عبر عنه بالسلطان، مثل أن يقال في حق المخالفين وحاربوا عساكر السلطان، أو ومنعوا خراج السلطان وما أشبه ذلك، يريدون الخليفة، على ما ستقف عليه في الكتب التي نوردها في المكتابات عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى.وقال ابن شيث في معالم الكتابة: ويخاطب بالمواقف المقدسة الشريفة، والعتبات العالية، ومقر الرحمة، ومحل الشرف. وذكر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف نحوه، فقال: ويخاطب بالديوان العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين، مجردةً عن سيدنا ومولانا، ومرةً غير مجردة، مع مراعاة المناسبة، والتسديد والمقاربة. قال: وسبب الخطاب بالديوان العزيز الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، وتنزيل الخطاب منزلة من يخاطب نفس الديوان، والمعني به ديوان الإنشاء، إذ كتب وأنواع المخاطبات إليه واردةٌ وعنه صادرةٌ.وقد سبق في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة نقلاً عن ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب إنكار هذه الاستعارات والمخترعات، وسيأتي في المكاتبة إلى الخلفاء ذكر ترتيبها إن شاء الله تعالى.وإن كان المكتوب عنه ملكاً، فقد جرت العادة أن يعبر عنه بنون الجمع للتعظيم فيقال: فعلنا كذا، وأمرنا كذا، واقتضت آراؤنا الشريفة كذا، وبرزت مراسيمنا بكذا، ومرسومنا إلى فلان أن يتقدم بكذا، أو يتقدم أمره بكذا، وما أشبه ذلك. وذلك أن ملوك الغرب كانوا يجرون على ذلك في مخاطباتهم، فجرت الملوك على سننهم في ذلك. وفي معنى الملوك في ذلك سائر الرؤساء، من الأمراء، والوزراء، والعلماء، والكتاب، ونحوهم من ذوي الأقدار العلية، والأخطار الجليلة، والمراتب السنية في الدين والدنيا، ممن يصلح أن يكون آمراً وناهياً، إذا كتبوا إلى أتباعهم ومأموريهم، إذ كانت هذه النون مما يختص بذوي التعظيم دون غيرهم. وشاهد ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {حتى إذا حضر أحدهم الموت قال رب ارجعون} فدعاه دعاء المفرد لعدم المشاركة له في ذلك الاسم، وسأله سؤال الجمع لمكان العظمة، إلى غير ذلك من الآيات الواردة مورد الاختصاص له كما في قوله تعالى: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} وقوله: {إنا نحن نحيي الموتى} وقوله: {نحن الوارثون} وغير ذلك من الآيات. قال في معالم الكتابة: وقد أخذ كتاب المغرب بهذا مع ولاة أمورهم في الجمع بالميم فخاطبوا الواحد مخاطبة الجمع مثل: أنتم، وفعلتم، وأمرتم، وما أشبه ذلك.قلت: والأمر في ذلك عندهم مستمر إلى الآن. قال ابن شيث: وهو غير ما صور به عند غيرهم.وإن كان المكتوب عنه مرؤوساً بالنسبة إلى المكتوب إليه كالتابع ومن في معناه، فقال في مواد البيان: يبنغي أن يتحفظ في الكتب النافذة عنه من الإتيان بنون العظمة وغيرها من الألفاظ التي فيها تعظيم شأن المكتوب عنه مثل أن يقول: أمرت بكذا، أو نهيت عن كذا، أو أوعزت بكذا، أو تقدم أمري إلى فلان بكذا، أو أنهي إلي كذا، أو خرج أمري بكذا، وما في معنى ذلك مما لا يخاطب به الأتباع رؤساءهم، بل يعدل عن مثل هذه الألفاظ إلى ما يؤدي إلى معناها مما لا عظمة فيه، مثل أن يقول: وجدت صواب الرأي كذا ففعلته، ورأيت السياسة تقتضي كذا فأمضيته، وما أشبه ذلك، إن كان عرف الكتاب على الخطاب بالتاء، وإلا قال: وجد المملوك صواب الرأي كذا ففعله، ورأى السياسة تقتضي كذا فأمضاه، وما يجري هذا المجرى.وأما المكتوب إليه، فقال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين: ينبغي أن يعرف قدر المكتوب إليه من الرؤساء، والنظراء، والعلماء، والوكلاء، ليفرق بين من يكتب إليه أنا أفعل كذا ومن يكتب إليه نحن نفعل كذا فأنا من كلام الأشباه والإخوان، ونحن من كلام الملوك، ويفرق بين من يكتب إليه فإن رأيت أن تفعل كذا وبين من يكتب إليه: فرأيك. قال في مواد البيان: وذلك إن قولهم فإن رأيت أن تفعل كذا لفظ النظراء والمساوين، بخلاف فرأيك، فإنه لا يكتبه إلا جليلٌ معظم، لتضمنها معنى الأمر والتقدير فر رأيك، بخلاف فإن رأيت، فإنه لا أمر فيه، إذ يقال: فإن رأيت أن تفعل كذا فافعله. على أن الأخفش قد أنكر هذا على الكتاب، لأن أقل الناس يقول للسلطان: انظر في أمري، ولفظه لفظ الأمر ومعناه السؤال. وذكر مثله في صناعة الكتاب عن النحويين. قال في مواد البيان: وحجة الكتاب أن المشافهة تحتمل ما لا تحتمله المكاتبة، لأن المشافهة حاضرٌ يحضر الإنسان لا يمكنه تقييده وترتيبه، والمكاتبة بخلاف ذلك، فلا عذر لصاحبها في الإخلال بالأدب. قال ابن شيث: وقد اصطلحوا على أن يكتب في أواخر الكتب: وللآراء العالية فضل السمو والقدرة إن شاء الله تعالى. ودون ذلك: وللرأي السامي حكمه ودونه: والرأي أعلى. ودونه: والرأي موفق وموفقاً بالرفع والنصب. ودونه: ورأيه للمجلس: ورأيها للحضرة. قال: وربما قالوا: فإن رأى مولانا أن يكون كذا وكذا أمر به أو فعل إلا أنها لا تقوم مقام قوله: والرأي أعلى. فأما لمن دونه فيحتمل. وذكر أنه كان مصطلحهم أن يقال في آخر الكتاب السلطان: فاعلم ذلك واعمل به إن شاء الله تعالى. وإن أعيان أصحاب الأقلام كانوا يكتبوبه إلى من دونهم.قلت: والذي استقر عليه الحال في مثل ذلك: وللآراء العالية مزيد العلو وأن تختم الكتابة للأكابر بمثل: فنحيط علمه بذلك ولمن دونهم: فنحيط بذلك علماً، وللأصاغر: فليعلم ذلك ويعتمده ونحو ذلك. قال محمد بن إبراهيم الشيباني: إن احتجت إلى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والأدباء والخطباء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلاًّ منهم على قدر أبهته وجلالته وعلوه وارتفاعه وفطنته وانتباهه. ولكل طبقة من هذه الطبقات معانٍ ومذاهب يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، وتزن كلامك في مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه، فإنه متى أهملت ذلك وأضعته، لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقتهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه، فلا تعتد بالمعنى الجزل ما لم تكسه لفظاً مختلفاً على قدر المكتوب إليه، فإن إلباسك المعنى وإن صح إذا أشرب لفظاً لم تجربه عادة المكتوب إليه تهجينٌ للمعنى، وإخلالٌ لقدر المكتوب إليه، وظلمٌ يلحقه، ونقصٌ مما يجب له، كما أن في اتباع متعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنتهم، قطعاً لعذرهم، وخروجاً عن حقهم، وبلوغاً إلى غاية مرادهم، وإسقاطاً لحجة أدبهم. قال ابن عبد ربه: فامتثل هذه المذاهب وأجر عليها القوم.قال في مواد البيان: وذلك أن المعاني التي يكتب فيها وإن كان كلٌّ منها جنساً بعينه، كالتهنئة والتعزية والاعتذار والعتاب والاستظهار ونحو ذلك، فإنه لا يجوز أن يخرج المعنى لكل مخاطبٍ على صيغةٍ واحدةٍ من اللفظ، بل ينبغي أن يخرج في الصيغة المشاكلة للمخاطب، اللائقة بقدره ورتبته. ألا ترى أنك لو خاطبت سلطاناً أو وزيراً بالتعزية عن مصيبةٍ من مصائب الدنيا، لما جاز أن تبني الكلام على وعظه وتبصيره وإرشاده وتذكيره وحضه على الأخذ بحظ من الصبر، ومجانبة الجزع، وتلقي الحادثات بالتسليم والرضا، وإنما الصواب أن تبني الخطاب على أنه أعلى شاناً، وأرفع مكاناً، وأصح حزماً، وأرجح حلماً، من أن يعزى، بخلاف المتأخر في الرتبة، فإنه إنما يعزى تنبيهاً وتذكيراً، وهدايةً وتبصيراً، ويعرف الواجب في تلقي السراء بالشكر، والضراء بالصبر، ونحو ذلك.292- وكذلك إذا كاتبت رئيساً في معنى الاستزادة والشكوى، لا يجوز أن تأتي بمعناهما في ألفاظهما الخاصة، بل يجب أن تعدل عن ألفاظ الشكوى إلى ألفاظ الشكر، وعن ألفاظ الاستزادة إلى ألفاظ الاستعطاف والسؤال في النظر، لتكون قد رتبت كلامك في رتبته، وأخرجت معناك مخرج من يستدعي الزيادة لا من يشكو التقصير.قال ابن شيث في معالم الكتابة: ولا يخاطب السلطان في خلال الكتابة إليه بسيدنا مكان مولانا، فإن سيدنا كأنها خصصت بأرباب المراتب الدينية والديوانية، ومولانا تخص السلطان وحده، وإن كان من نعوت السلطان السيد الأجل.قال: على أن ذلك مخالف لمذهب المغاربة، فإنهم يعبرون عن ولاة أمورهم بالسادة، ويعبرون عن صاحب الأمر بسيدنا، وكأن هذا كان في زمانه، وإلا فالمعروف عند أهل المغرب والأندلس الآن التعبير عن السلطان بالمولى، يقول أحدهم مولانا فلان. وأهل مصر الآن يطلقون السادة على أولاد الملوك.وكذلك لو وقع واقع للسلطان فنصحته لم يجز أن تورد ذلك مورد التنبيه على ما أغفله، والإيقاظ لما أهمله، والتعريف من الصواب لما جهله، لأن ذلك من القبيح الذي لا يحتمل الرؤساء من الأتباع، ولكن تبني الخطاب على أن السلطان أعلى وأجل رأياً، وأصح فكراً، وأكثر إحاطةً بصدور الأمور وأعجازها، وأن آراء خدمه جزء من رأيه، وأنهم إنما يتفرسون مخايل الإصابة بما وقفوا عليه من سلوك مذهبه، والتأدب بأدبه، والارتياض بسياسته، والتنقل في خدمته، وإن مما يفرضونه في حكم الإشفاق والاهتمام، وما يسبغ عليهم من الإنعام، المطالعة بما يجري في أوهامهم، ويحدث في أفكارهم، من الأمور التي يتخيلون أن في العمل بها مصلحة للدولة، وعمارةً للمملكة، ليتصفحه بأصالة رأيه التي هي أوفر وأثبت. فإن استصوبه أمضاه، وإن رأى خلافه ألغاه، وكان الرأي الأعلى ما يراه، إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى.قال ابن شيث في معالم الكتابة: ولا يقارن الكاتب السلطان في تكرار المواضع التي يقع الالتباس فيها بين الكاتب والمكتوب إليه، لأن هاء الضمير تعود عليهما معاً لما تقدم من ذكرهما، وإن كان في القرينة ما يدل على ذلك بعد الفكرة وإذا ابتدأ معهم بالمملوك لا يقال بعد ذلك العبد ولا الخادم، وإن كان ذلك جائزاً مع غير السلطان.قال: ولا بأس بتكرار الإشارة إلى السلطان في المواضع التي يجمل فيها الاشتراك بينه وبين المكتوب إليه، مثل أن يقال: وكان قد ذكر كذا وكذا، والضمير في كان يصلح لهما معاً، فلابد هنا من ذكر المملوك، إن كان الالتباس من جهة الكاتب، أو مولانا إن كانت الإشارة إلى السلطان.الأصل العاشر: أن يراعي مواقع آيات القرآن والسجع في الكتب وذكر أبيات الشعر في المكاتبات:أما آيات القرآن الكريم، فقد ذكر ابن شيث في معالم الكتابة أنها في صدر الكتب، قد يذكرها الأدنى للأعلى في معنى ما يكتب به، مثل قوله تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً} وقوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} إلى غير ذلك من الآيات المناسبة للوقائع وإن كانت في أثناء الكتب، فقد استشهد بها جماعةٌ من الكتاب في خلال كتبهم مما رأيته.وأما السجع، فقد ذكر ابن شيث: أنه لا يفرق فيه بين كتاب الأعلى للأدنى وبالعكس، وأنه بما يكتب عن السلطان أليق، لكن قد ذكر بعض المتأخرين أنه الكتابة بالسجع نقصٌ في حق المكتوب إليه، وقضيته أنه لا يكتب به إلا من الأعلى للأدنى، إلا أن الذي جرى عليه مصطلح كتاب الزمان تخصيصه ببعض الكتب دون بعض من الجانبين.وأما الشعر فيورده حيث يحسن إيراده، ويمنعه حيث يحسن منعه، فليس كل مكاتبة يحسن فيها إيراد الشعر، بل يختلف الحال في ذلك بحسب المكتوب عنه والمكتوب إليه. فأما المكاتبات الصادرة عن الملوك والصادرة إليهم، فقد ذكر في مواد البيان أنه لا يتمثل فيها بشيءٍ من الشعر، إجلالاً لهم عن شوب العبارة عن عزائم أوامراهم ونواهيهم والأخبار المرفوعة إليهم، بما يخالف نمطها ووضعها، ولأن الشعر صناعةٌ مغايرة لصناعة الترسل، وإدخال بعض صنائع الكلام في بعض غير مستحسن.قلت: الذي ذكره عبد الرحيم بن شيث في كتابة معالم الكتابة ومواضع الإصابة أنه يتمثل بالشعر في المكاتبات الصادرة عن الملوك دون غيرهم، وهو معارضٌ لما ذكره في مواد البيان. وكأنه في مواد البيان يريد الكتب النافذة عن الملوك إلى من دونهم، أو ممن دونهم إليهم. أما الملوك والخلفاء إذا كتبوا إلى من ضاهاهم في أبهة الملك وقاربهم في علو الرتبة، فإنه لا يمنع التمثل بأبيات الشعر فيها، تطريزاً للنثر بالنظم، وجميعاً بين جنسي الكلام اللذين هما خلاصة مقاصده. وما زالت الخلفاء والملوك السالفة يخللون كتبهم الصادرة عنهم إلى نظرائهم في علو الرتبة بالأبيات الرقيقة الألفاظ، البديعة المعاني، للاستشهاد على الوقائع المكتوب بسببها، كما كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين تمالأ عليه القوم واجتمعوا على قتله إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: [طويل] وكما يكتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه! إلى معاوية بن أبي سفيان، في جواب كتاب له حين جرى بينهما التنازع في الخلافة، فقال في أثناء كتابه: وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يك ذلك كذلك فليست الجناية عليك، فيكون العذر إليك: [طويل] وعلى ذلك جرى كثيرٌ من خلفاء الدولتين الأموية والعباسية، كما حكى العسكري في الأوائل أن أهل حمص وثبوا بعاملها فأخرجوه، ثم وثبوا بعده بعامل آخر، فأمر المتوكل إبراهيم بن العباس أن يكتب إليهم كتاباً يحذرهم فيه ويختصر، فكتب.أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله تعالى عليه فيما قوم به من أود أو عدل به من زيغ، أو لم به من شعث، ثلاثاً يقدم بعضهن أمام بعضٍ، فأولاهن ما يستظهر به من عظةٍ وحجة، ثم ما يشفعه من تحذير وتنبيه، ثم التي لا ينفع حسم الداء غيرها: [طويل] وممن كان يكثر التمثل بالشعر في المكاتبات من خلفاء بني العابس وتصدر إليه المكاتبات كذلك الناصر لدين الله حتى يحكى أن الملك الأفضل، علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب دمشق حين تعصب عليه أخوه الملك العزيز عثمان وعمه الملك العادل أبو بكر، كتب إلى الناصر لدين الله يستجيشه عليهما كتاباً يشير فيه إلى ما تعتقده الشيعة من أن الحق في الخلافة كان لعلي، وأن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما، تقدماً عليه، إذ كان الناصر يميل إلى التشيع، وكتب فيه: [بسيط] فكتب إليه الناصر الجواب عن ذلك، وكتب فيه: [كامل] وعلى ذلك جرى الملوك القائمون على خلفاء بني العباس في مكاتباتهم أيضاً. كما كتب أبو إسحاق الصابي عن معز الدولة بن بويه، إلى عدة الدولة أبي تغلب كتاباً يذكر له في خلاف قريبين له، لم يمكنه مساعدة أحدهما على الآخر، واستشهد فيه بقول المتلمس: [طويل] وعلى هذا النهج جرى الحال في الدولة الأيوبية بالديار المصرية. كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ديوان الخلافة ببغداد، عند قتل ابن رئيس الرؤساء وزير الخليفة كتاباً ليسلي الخليفة عنه، وكان ممن أساء السيرة وأكثر الفتك، متمثلاً بالبيتين المقولين في أبي حفص الخلال، وزير أبي العباس السفاح، وكان يعرف بوزير آل محمد: [كامل] وكما كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون إلى صاحب اليمن في جواب تعزية أرسلها إليه في ولده الملك الصالح، مع تعريضه في أمرٍ له بأن الحروب مما يشغل عن المصائب في الأولاد، مستشهداً فيه بقوله: [وافر] وكما كتب صاحبنا الشيخ علاء الدين البيري، رحمه الله، عن الظاهر برقوق صاحب الديار المصرية، جواباً لصاحب تونس من بلاد المغرب، واستشهد فيه لبلاغة الكتاب الوارد عنه بقوله: [خفيف] وعلى ذلك جرت ملوك المغرب من بني مرينٍ وغيرهم. كما كتب بعض كتاب السلطان أبي الحسن المريني عنه إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية كتاباً يخبره في خلاله أن صاحب بجاية خرج عن طاعته فغزاه، وأوقع به وبجيوشه ما قمعه، مستشهداً فيه بقوله: [سريع] إلى غير ذلك من المكاتبات الملوكية التي لا تحصى كثرةً. بل ربما وقع التمثيل بالشعر في المكاتبات عن الخلفاء والملوك إلى من دوهم وبالعكس.كما حكى العسكري في الأوائل أن رافعاً رفع كتاباً إلى الرشيد، وكتب في أسفله: [طويل] فكتب إليه الرشيد كتاباً وكتب في أسفله، [طويل] وبالجملة فمذاهب الناس في التمثل بالشعر في المكاتبات الملوكية مختلفةٌ، ومقاصدهم متباينةٌ بحسب الأغراض، ولذلك أورد الشيخ جمال الدين بن نباتة هذه المسألة في جملة أسؤولته، التي سأل عنها كتاب الإنشاء بدمشق، مخاطباً بها الشيخ شهاب الدين محموداً الحلبي، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء بها فقال: ومن كره الاستشهاد في مكاتبة الملوك بالأشعار؟ وكيف تركها على ما فيها من الأثار؟أما المكاتبات الإخوانيات الواقعة بالتهاني، والتعازي، والتزاور، والتهادي، والمداعبة، وسائر أنواع الرقاع في فنون المكاتبات، فقد قال في مواد البيان: إنه يجوز أن تودع أبيات الشعر على سبيل التمثل وعلى سبيل الاختراع، محتجاً بأن الصدر الأول كانوا يستعملون ذلك في هذه المواضع. وهذا الذي ذكره لا خفاء فيه، وكتب الرسائل المدونة من كلام المتقدمين والمتأخرين من كتاب المشرق والمغرب شاهدةٌ بذلك، ناطقةٌ باستعمال الشعر في المكاتبات، وأثنائها ونهاياتها، ما بين البيت والبيتين فأكثر، حتى القصائد الطوال. وأكثر ما يقع من ذلك البيت المفرد والبيتان فما حول ذلك. كما استشهد القاضي الفاضل في بعض مكاتباته في الشوق بقوله: [طويل] وكما كتب أيضاً لبعض إخوانه في جواب كتاب: [طويل] وكما كتب في وصف كتابٍ ورد عليه مستشهداً بقوله: [كامل] وكما كتب في كتاب تعزية بصديقٍ مستشهداً فيه بقوله: [طويل] إلى غير ذلك من المكاتبات التي لا يأخذها حصر، ولا تدخل تحت حد، مما ستقف على الكثير منه في الكلام على مقاصد المكاتبات، إن شاء الله تعالى.الأصل الحادي عشر: أن يأتي في مكاتبته بحسن الاختتام:ويرجع إلى معنيين كما في حسن الافتتاح المقدم ذكره:المعنى الأول: أن يكون الحسن فيه راجعاً إلى المعنى المختتم به، إما بمعاطاة الأدب من المرؤوس إلى الرئيس ونحو ذلك، وإما بما يقتضي التعزيز والتوقير من الرئيس إلى المرؤوس، كالاختتام بالدعاء ونحو ذلك، مما يقع في مصطلح كل زمن.المعنى الثاني: أن يكون الحسن فيه راجعاً إلى ما يوجب التحسين من سهولة اللفظ، وحسن السبك، ووضوح المعنى، وتجنب الحشو، وغير ذلك من موجبات التحسين، كما كتب الصاحب بن عباد في آخر رسالة له: لئن حنثت فيما حلفت، فلا خطوت لتحصيل مجد، ولا نهضت لاقتناء حمد، ولا سعيت إلى مقام فخر، ولا حرصت على علو ذكر. قال أبو هلال العسكري: فهذه اليمين، لو سمعها عامر بن الظرب، لقال هي اليمين الغموس لا القسم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ونحو ذلك مما يجري هذا المجرى.قلت: واعتبار هذه الأصول الأحد عشر بعد ما تقدم اعتباره في الكلام على صنعة إنشاء الكلام وترتيبه في المقالة الأولى، من أنه لا يستعمل في كلامه ما أتت به آيات القرآن الكريم، من الاختصار، والحذف، ومخاطبة الخاص بمخاطبة العام، ومخاطبة العام بمخاطبة الخاص، ولا ما يختص بالشعر من صرف ما لا ينصرف، وحذف ما لا يحذف، وقصر الممدود، ومد المقصور، والتقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، وتصغير الاسم في موضع التعظيم، مثل دويهيةٍ، وما شاكل ذلك مما تقدم التنبيه عليه في موضعه، فلا بد من اعتباره هنا.الأصل الثاني عشر: أن يعرف مقادير قطع الورق وسعة الطرة والهامش وسعة بيت العلامة ومقدار ما بين السطور وما يترك في آخر الكتاب:إما مقدار قطع الورق، فقد تقدم في المقالة الثالثة أنه يختلف باختلاف المكتوب إليهم عن السلطان، فكلما عظم قدر المكتوب إليه، عظم مقدار قطع الورق، وربما روعي في ذلك قدر المكتوب عنه والمكتوب إليه جميعاً.وأما طول الطرة في أعلى الكتاب، فقد ذكر في معالم الكتابة أنها تطول فيما إذا كان الكتاب من الأعلى إلى الأدنى، وتكون متوسطة من الأتباع، وسيأتي أن المصطلح عليه في زماننا إلى المكاتبات الصادرة عن السلطان تكون الطرة فيها ما بين ثلاثة أوصال إلى وصلين، ومن النواب ومن في معناهم تكون وصلاً واحداً.وأما مقدار سعة الهامش فقد سمعت بعض فضلاء الكتاب يذكر أن الضابط فيه أن يكون ثلث عرض الدرج المكتوب فيه.وأما بيت العلامة فقد تقدم أنه يكون مقدار نحو شبر في كتب السلطان، أما في غيره حيث كانت العلامة تحت البسملة فتكون نحو ثلاثة أصابع أو أربعةٍ.وأما سعة ما بين السطور فقد تقدم أنها تكون بمقدار نصف بيت العلامة. وذكر ابن شيث أنها ثلاثة أصابع أو أربعة.وأما ما يترك في آخر الكتاب فقد ذكر ابن شيث أنه لا يترك في آخر المكاتبة شيئاً.وأما الخط فإنه كلما غلظ القلم واتسعت السطور كان أنقص في رتبة المكتوب إليه وقد ذكر في معالم الكتابة أن الكتب الصادرة إلى السلطان لا يكون بين سطورها أكثر من إصبعين.
|